دراسات

عبد المجيد بطالي:سيميائية السرد العجائبي في رواية “سوق الجن” للروائية رولا حسينات

تعتبر السيميولوجيا Semiology المجال الأكثر اهتماما بالبحث في علم العلامات كما جاء به “سوسير” وقد اختلف كثير من الباحثين في ترجمة مصطلح سيميولوجيا إلى (علم العلامات، علم الدلالة، علم الأدلة، علم العلامة…) وبذلك أصبح مجال البحث فيها واسعا يشمل، كل ما له علاقة بالعلامة أو الدليل أو السمة أو القرينةبل يستدعي القرينة والبصمة والصورة والحركة والإماءة والإشارة…

ومن هذا الباب الشاسع آثرت أن أتناول بالبحث والدراسة (سيميائية السرد العجائبي في رواية: “سوق الجن”).. على اعتبار أن النص الروائي قيد التشريح ما هو إلا سلسلة من العلامات المتشاكلة والمتباينة التي تنتظم من خلالها رسالة الروائية رولا حسينات…

سيمياء العجائبية في عتبة الرواية:

يعدّ العنوان/ العتبة علامة سيميائية بامتياز، تثير في المتلقي فضول الاستكشاف والاستطلاع إلى ماهية البنية النسقية لعنوان المقروء/ الرواية/ الخطاب.. لذلك فعنوان الرواية: (سوق الجن) علامة مثيرة جدا لمخيلة المتلقي، حظيت بعجائبية مدهشة استدعتها الكاتبة رولا حسينات من أرشيف الحكاية العجائبية…

لا أبالغ إذا قلت بأن السرد في رواية (سوق الجن) يبدأ بالدهشة من أول خيط للمسرود لذلك فهي رواية شدّ الانتباه للمتلقي/ القارئ بامتياز…

تستند سيميائية “العجائبية” في سرد رواية “سوق الجن” على عنصرين أساسيين هما: الخرق، والغرابة… ذلك أن “العجائبية” هي اسم منسوب دال على (العجب) أو مايدعو إلى التأمل العميق في الأمور..إذ لحقت بآخر هذا الاسم ياء مشددة للدلالة على نسبة شيءٍ ما يستدعي الدهشة وإثارة الإعجاب والانبهار… وقد ورد في (معجم النفائس الكبير): “أمر عَجَبٌ وعُجابٌ وعُجَّاب، بتخفيف الجيم وتشديدها للمبالغة، أي: يُتعجّب منه، وعجبٌ عُجاب: مبالغة… والعَجَبُ، إنكار ما يرد عليك، وروعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء.. والعجيب: الأمر يتعجب منه، والعجيبة: اسم لما به التعجب وهو جمع عجائب..” ([1])

الخرق/ خرق المألوف

بداية من العنوان: (سوق الجن) يظهر نوع من الخروج عن المألوف على مستوى عمق الدلالة لبنية العنوان المؤَلَّفُ من مفردتين: (سوق) و(الجن)إذ تشكلان تناقضالعالمين متباينين: عالم مرئي هو (سوق) وعالم مخفي هو (الجن)… على اعتبار أن الأول/ يحيلنا إلى المكان، أو الموضع الذي يحوي تجمعا بشريا كبيرا لترويج البضاعة، ومعاملات البيع والشراء بين أناس يمتهنون التجارة… لكنها في بنية العنوان، سوق مختلفة تماما في مخيلة السارد بإضافته كلمة لتعريف هذه السوق على أنها سوق الجن.. وليست كما يتوقعها الإنسان…وهو خروج عن المألوف على مستوى المعنى وعلى مستوى الدلالة، فعندما يقرأ المتلقي كلمة “سوق” فإن الحمولة المعرفية لديه تحيله إلى مرجعية سوق بشرية.. غير أن المضاف إليه في كلمة “الجن” تحوِّل اتجاه التفكير إلى سوق غريبة مرتبطة بمخلوقات وأرواح خفية، يستعصي على المتلقي تخيلها أو التفكّر فيها.. ومن هنا جاءت فجوة التوتر عند تلقي الخطاب، والتي تحملها عتبة الرواية، ومنها إلى أبوابها ومداخلها الأخرى…

سيمياء العجائبية في غلاف الرواية:

يتفرد غلاف رواية “سوق الجن” باحتوائه على لوحة تشكيلية تميزت بالاستغراب والعجائبية إذ تعكس الساردة من خلالها مجموعة من السمات الدالة على تصورها لعتبة روايتها.. والذي ارتكزت فيه على مرجعية أو نظام من الرموز الثقافية والاعتقادية، “ويتكون هذا النظام من أشكال تعبيرية مختلفة، مثل اللغة وتصنيفات الأشياء والكائنات والمعتقدات والأعمال التقنية والفنية، وقواعد الأخلاق والطقوس والتقاليد…” ([2])

يلاحظ المتلقي على مستوى الكتابة أن العنوان على غلاف الرواية قد كُتب باللون الأبيض محاط بالأسود وبشكل مثير للتساؤل، يحيل على ارتعاش الأنامل من الخوف أثناء الكتابة.. لأن الأمر يتعلق بشيء غريب إنه (سوق الجن).. ويلاحظ كذلك أن خلفية اللوحة تشكل جدار باللون البني الغامقمنحوت أو محفور بنقوش وطلاسم تدعو إلى الغرابة والغموض…أسفل اللوحة صورة تخييلية غريبة (للجن) بقرنين ومنقار وعين طافية وأخرى بارزة، معلقة على صدره أشكال غريبة جدا وعظام نخرة.. يحمل في كفه اليسرى بومة عجيبة الشكل لا تنتمي إلى عالم الواقع.. لوحة مشحونة برموز وسمات تحيل على عالم الجن اللامرئي لتقريب المتلقي من عجائبية مختلفة…

قوة البطل الخارقة:

استطاعت الساردة رولا حسينات أن تصور مجموعة من الأحداث الكامنة في المُتَخَيَّل السردي العجائبي، لتعبر عنها بالوصف المرتب الدقيق،لتقريب القارئ من عالم المخفيات تقول حكاية عن بطل الرواية: “…لم يعجزه أن يزيح الحجر الثقيل فوق الحفرة.. قوة غريبة تدفقت إلى جسده… في الظلمة كان الأمر غريبا.. رأى أشياء لم يرها من قبل…”([3])فكان للمكان دوره الهام في عملية السرد، إذ يجعل المتلقي في بؤرة الحدث، بما تقدمه سيميائية المكان في حبك خيوط السرد، وربطها بما يحيل على عجائبية تستدعي التأمل العميق في الغيبيات، يلاحظ القارئ حضور أمكنة توحي بشيء مختلف تماما، (الحفرة – القبر.. أرض موحشة مقفرة.. البركة…)، وكذلك استعمال الساردة لزمن الماضي والحاضر معا: للحكي وتصريف الأحداث والاعتبار منها: (الليل، الظلمة، الفجر..)”عندماأذنالفجروأتمّالمصلونالصلاةكانالجميعقداستغربذلكالصوتالعظيمالذيجاءهممنمقربةالمسجد..” ([4])

المؤثرات الخارجية

تعتبر المؤثرات الخارجية علامات سيميائية دالة على وقوع أحداث في المكان والزمان، لها تأثيرها الهام بشكل أو بآخر على شخصية الفرد الذاتية والسلوكية.. كما أنها تعد أهم المنبهات المثيرة لأفعال سلوكات إرادية ولا إرادية يقوم بها الفرد.. كما هو الشأن بالنسبة لبطل رواية “سوق الجن” تقول الساردة:”شدّ انتباهه شيء يعوم تارة فيه ويغرق أخرى، نظر حوله.. تمعن بالشواهد، استوقفه شاهد مثبت إلى قبره…” ([5])ويلاحظ المتلقي هذه المثيرات الخارجية في علاقتها بنفسية البطل تقول الساردة: “ماشغلهأنيجدعصًاصغيرةينتشلفيهاتلكالقطعةالحمراء…التيأرقتهأكثرمماهوفيه،ماتراهكانفيجوفهوتقيئهالآن؟! كانتعصًالشوكيابس،جعليعبثبتلكالبركةبقليلمنالصبروكثيرمنالوقت،ظلَّيحاولأنيركززيغعينيه،منالقيءأخرجالقطعةالحمراءالصغيرةعدةمراتحتىاستلقتإلىجانبالبركةبلونهاالأحمراللامع…” ([6])

الغرابة والاستغراب:

تأخذك فيدواليبها الدهشة والاستغراب.. وأنت تقرأ بتمعن وتشوق لرواية (سوق الجن)،متتبعا خيوط الحكاية لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن البطل، فتصدمك غرابة الأحداث وعجائبيتها.. حيث تروي الساردة عن البطل: “…لسعةالبردهيالتيأيقظتهحاولأنيثبتعليهكفنهالأبيض،فطنلماهوقابضعليهبيده،بيدينمرتعشتينوبأصابعرقيقةفتحها،كانتورقةغايةفيالصغرمحشورةفيهاالأسطر..” ([7])وهذا ما يحيل القارئ على سيميائية دالة على عالم يعج بالخارقات والغرائب…

تقلبات الأحوال:

                يعيش البطل تقلبات شتى نفسية وذاتية… يكون العامل المؤثر فيها (مثيرات خارجية) كما هو مسرود في رواية (سوقالجن) “فيغمرةالحيرةالتيأصابته..ثارتزوبعةبالمكانوهاجتالأرضمنحولهوزفرتآخرفلولالنهارلفظتها الأخيرة شبحأسودمدبجسدهأبعدمنالجبلالذيعلىيمينه…برزمنبينالغبارالكثيف؛كانمخيفًاحتىأصابهبالعجز،ليقوممنمكانه…أغمضعينيه،والتفبيديهعلىوجهه..ماالذييفعله؟،أخذيحدثهبكلماتبهاجلافة…” ([8]) (غمرة الحيرة، ثارت زوبعة، هاجت الأرض، شبح أسود، الغبار الكثيف..) وكلها علامات سيميائية توحي بالغرابة،كما تصوّر واقعا تخييليا سرديا عجائبيا…

                من خلال تتبع القارئ لأحداث رواية (سوق الجن) يستكشف عالما مختلفا يحكي عن مغامرات عجائبية لها علاقة بعالم ليس كعالمه تبرز في أحداث مبهرة للعقل مرتبطة بـــ (عالم الجن/ استدعاء الأرواح/ الموتى/ الحفر المخيفة/ الجن الذي يسكن الجبل الذي يمتلك الكثير من الجرار المليئة بالذهب والخرزيات والأثريات والكنوز وغيرها…) تقول الساردة “بضعةرجالمناستطاعالصعود،ودخلوافيه،ولميظهروامنذوقتبعيد،قيل: أنَّوحوشالجبلقدنهشتهمأوأنَّجنيةالجبلالتيتحرسهاالفئرانالبيضاءهيمنابتلعتهم،وهيالتيتُسمعضحكاتهافيالليلالهادئ” ([9])

                كثيرة هي المشاهد والصور الخيالية والعجائبيةالمبثوثة في فضاء المتن السردي لرواية “سوق الجن” ككل.. والتي أبدعت الكاتبة في تركيبها على مستوى البناء السطحي، كما استطاعت أن تحلق بالقارئ عبر جمل تركيبة للنص نحو مداخل مختلفة لمضامين ودلالاتوعلامات سيميائية شديدة الغرابة والإثارة والاندهاش، تشد المتلقي إلى المتعة الجمالية، وتُجبره في ذات الآن على تتبع مجريات الوقائع والأحداث، بل اكتشاف ما سيقع من عجائب ونوادر خارقات في عالم المخفيات…


[1]– معجم النفائس الكبير، جماعة من المختصين، إشراف د. أحمد أبو حاقة، دار النفائس للطباعة والنشر…/ الطبعة الأولى 2007 مادة: (عجب) ص: 1211

[2]– د. محمد السرغيني، “محاضرات في السيميولوجيا” دار الثقافة/ الدار البيضاء/ ط. 1/ 1978.. ص: 50

[3]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 8

[4]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 30

[5]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 10

[6]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 11

[7]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 12

[8]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص: 13

[9]– رولا حسينات “سوق الجن” دار للعالمين للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى، 2019/ ص، ص:20، 21، 22، 23.. 26…

أضف تعليق